كريم بقرادوني
ختمت مقالا كتبته في هذه الزاوية في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 حول قرار الكنيست الاسرائيلي بنزع الحصانة النيابية عن عزمي بشارة بما حرفيته: «محاكمة عزمي بشارة هي الفرصة الذهبية امام البرلمانيين العرب لمحاكمة اسرائيل».
ومنذ ثلاثة ايام مثل عزمي بشارة امام محكمة الناصرة التي وجهت اليه تهمة «التحريض» على «المقاومة الشعبية» المتمثلة بحزب الله والانتفاضة وسوريا، وهو اول برلماني في اسرائيل يمثل امام القضاء بسبب مواقفه وآرائه السياسية، لا بل هو اول برلماني في العالم يتم نزع حصانته النيابية لمجرد انه اعلن عن مواقف سياسية، ولو كانت تختلف كل الاختلاف مع رأي الاكثرية الساحقة من النواب. فالحصانة النيابية وجدت في الاصل لحماية حرية النائب في اتخاذ مواقف معارضة للحكم والنظام والحيلولة دون ملاحقته بسبب آرائه ومواقفه السياسية.
لقد كشفت احالة عزمي بشارة الى المحاكمة وجه اسرائيل الحقيقي الذي برعت في اخفائه وراء قناع من الديمقراطية. فقد نجحت اسرائيل خلال خمسة عقود في اظهار نفسها امام العالم، ولا سيما امام العالم الغربي، بأنها «واحة» الديمقراطية المحاصرة داخل «صحراء» عربية مليئة بالانظمة الاحادية والديكتاتوريات على انواعها. وتعاطف الغرب معها وساندها ودعمها بسبب نزعتها الى الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان. وجاءت محاكمة عزمي بشارة لتسقط القناع وتظهر بان اسرائيل تمارس ما يمكن ان اسميه «الديمقراطية العنصرية» بامتياز.
صحيح ان النظام في اسرائيل يتعامل مع الاسرائيليين اليهود بمنطق الديمقراطية لكن هذه الديمقراطية محصورة لا بل هي مقصورة على اليهود دون سواهم من باقي الطوائف والجنسيات الأخرى. فالديمقراطية هي حق من حقوق الاسرائيليين اليهود، اما الاسرائيليون من اصل غير يهودي فانهم يخضعون لانظمة غير ديمقراطية تمنع نائباً منهم من ان يبدي رأيا سياسيا تحت طائلة الملاحقة، ولو كان بموقفه يعبر عن تطلعات ناخبيه، كما هي حال عزمي بشارة.
عند هذه النقطة تحولت محاكمة عزمي بشارة الى محاكمة الديمقراطية الاسرائيلية العنصرية التي تميز بين اسرائيلي واسرائيلي استنادا الى عرقه ودينه، فالاسرائيلي اليهودي يستحق الديمقراطية، اما الاسرائيلي من اصل فلسطيني او عربي فلا يستحقها، انه نظام العنصرية بكل ابعاده.
وفي رأيي ان المنحى العام الذي برز قبيل بدء المحاكمة وبعيدها كشف زيف الديمقراطية الاسرائيلية وعنصريتها، لكنه كشف ما هو اعمق واخطر. فالمؤسسة الاسرائيلية تعيش مأزقا كيانيا مرتبطا بايديولوجيتها ونظامها. فقد برزت مواجهة بين منطق الاحتلال الذي يمثله الادعاء الاسرائيلي، وهو يمثل حقيقة الكيان الاسرائيلي القائم على التوسع والعدوانية والعنف، ومنطق المقاومة الذي يمثله عزمي بشارة القائم على الدفاع عن حق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير والسلام وحقوق الانسان.
وقد افاد محامو عزمي بشارة من هذه المعطيات فابرزوا عدم صدقية الاتهامات «القانونية» المساقة ضد موكلهم ليخلصوا الى القول بأن المحاكمة «سياسية» في الجوهر والاساس. وقد التقط عزمي بشارة هذه النقطة حين اعلن «انا لا احاكم كشخص وانما كممثل لافكار سياسية. وافكاري السياسية تعتبر مقاومة الاحتلال امرا مشروعا.. ان هذا عار لاسرائيل وفخر لي».
*** في اول جلسة محاكمة له افلح عزمي بشارة في ان يجعل من «قفص الاتهام» الذي يقف فيه «منصة ادعاء» تحاكم اسرائيل ماضيا وحاضرا ومستقبلا. فرد اعزل لكنه مؤمن بعدالة قضيته يواجه بثقة دولة اقليمية عظمى لكنها مرتبكة ولم تعد واثقة من قضيتها. عزمي بشارة منفردا يبدو في منظار التاريخ اقوى من كل الاسرائيليين مجتمعين. فهو على يقين بان المقاومة ستنتصر في النهاية واسرائيل تدرك في اعماقها ان الاحتلال لا يمكن ان يدوم. لقد خرج الشعب الفلسطيني من القمقم ولن يعود اليه، فهل تتراجع اسرائيل وتعثر على مخارج اخرى غير المحاكمة في مسألة عزمي بشارة؟
لا احد يعرف، لكن الواقع ان اسرائيل ما تعودت ان تتراجع، وقد تراجعت مرة واحدة خلال نصف قرن فانسحبت من لبنان، وهي على غير استعداد لان تكرر التجربة القاسية ثانية.
ولا يخفى على احد، وعزمي بشارة في طليعة العارفين، بان الحكم القضائي صدر بحقه لحظة نزع الحصانة عنه، وان الجلسات امام القضاء ما هي سوى اجراءات تجميلية ضرورية لاعلان الحكم المقرر سلفا، في هذا المعنى تبدو المحاكمة صورية من الناحية القانونية، لكنها مواجهة حقيقية من الناحية السياسية.
لقد فجرت هذه المحاكمة مشاعر التضامن في الشارع العربي عموما ومشاعر الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين خصوصا، وكأن الشعوب العربية كانت تنتظر المناسبة السانحة للتعبير عن مكامنها والتضامن مع الحق العربي في وجه العدوان الاسرائيلي. لقد شارف المزاج العربي على نقطة اللاعودة! للمرة الاولى في تاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي توحدت التيارات الوطنية والقومية والاسلامية داخل فلسطين. وقد بلغ التضامن اوجه حين عانق زعيم الحركة الاسلامية رائد صلاح عزمي بشارة وسار الى جانبه نحو باب المحكمة. وحصل ما لم يكن في الحسبان الاسرائيلي عندما حضر المحكمة وفد من المشايخ الدروز بصحبة بعض اهالي الجولان ورفعوا العلم السوري الى جانب العلم الفلسطيني، وهذه سابقة لم تحدث من قبل.
والحقيقة ان مجموعة من المحامين السوريين بادرت منذ اسابيع خلت فشكلت في دمشق «هيئة الدفاع القومية عن المناضل العربي عزمي بشارة» وتحركت باتجاه المحامين اللبنانيين الذين لبوا النداء وشكلوا بدورهم في بيروت «الهيئة اللبنانية للدفاع عن عزمي بشارة»، مما اظهر تضامنا قل نظيره بين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وهو يؤشر لتضامن عربي شامل.
وكان لي شرف المساهمة في تأسيس الهيئة اللبنانية والمشاركة في صياغة بيانها الاول ورفع مذكرة الى الامين العام قبل يوم واحد من بدء محاكمة عزمي بشارة. وقد ناشدنا في البيان التأسيسي كل النواب والمحامين ورجال القانون والاعلام وكل الهيئات العاملة في اطار حقوق الانسان في العالم ليتضامنوا مع عزمي بشارة، كما توجهنا بنوع خاص الى البابا يوحنا بولس الثاني للانتصار لقضية عزمي بشارة «كجزء من تاريخ ودور المسيحيين في الشرق في رفع لواء الحرية ومكافحة القهر والعنصرية والاحتلال».
وفي المذكرة الى امين عام الامم المتحدة اشرنا الى ان عزمي بشارة يحاكم نيابة عن «كل ضحايا التمييز العنصري في العالم». وتظهر محاكمته بأن «لا قضاء مستقلا في اسرائيل»، و«لا مكان للتعدد الديني وممارسة حرية المعتقد»، و«لا ديمقراطية ولا حريات».
وعلى الصعيد اللبناني سيحمل رئيس مجلس النواب نبيه بري ملف عزمي بشارة الى الاتحاد البرلماني العربي الذي يعقد دورته في منتصف شهر آذار (مارس) الجاري في الرباط، كما سترفع لجنة المتابعة اللبنانية ملف عزمي بشارة الى مفوضة الامم المتحدة لحقوق الانسان ماري روبنسون التي تزور قريبا المنطقة. ولا استبعد ان يتم التنسيق مع الهيئة السورية لتنظيم العديد من المناسبات في كل من بيروت ودمشق في مواكبة مستديمة لفصول المحاكمة.
الحركة الشعبية المتضامنة مع عزمي بشارة انطلقت ولن تتوقف، وهي مرشحة لأن تتوسع وتكبر لتشمل معظم المجتمعات العربية.
حسب عزمي بشارة انه عرّى الديمقراطية الاسرائيلية المزيفة والعنصرية، وحرك الشارع العربي الذي يفتش عن قضية ليتضامن من اجلها. ان في المجتمعات العربية طاقات لو وظفت لغيرت وجه الصراع العربي ـ الاسرائيلي!.
الشرق الأوسط
عُرِف عزمي بشارة بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية