جبرا الشوملي
في واحدة من أهم تجديدات د.عزمي بشارة النظرية ، تحال إسرائيل بوصفها دولة دينية إلى إشكالية كولونيالية مزمنة ومتواصلة ، هي في الجذور العقدة الأولى فمجمل عملية الصراع ، وهي في التشخيص المفتاح الأول في طريق حل الصراع بهذا المعنى يمكن النظر بحدود معينة لمساهمات د. عزمي بشارة كواحد من المثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين أعادوا صب الجهد النظري والسياسي في إطار مجاورة المعني الأصلي لجوهر الصراع، كما في إطار بحثه ونقده وحلوله.
في السيرورة التاريخية للفعل النظري والسياسي والوطني والجماهيري لفلسطيني عام 1948 ، يمثل د.عزمي بشارة محطة لها خصائصها ومقارباتها في منظورات ومبادرات ومحاولات وأبنية وسياسات مهدت له، وسبقته في هذا المضمار، محطة نتفق ونختلف معها بأطروحاتها واجتهاداتها ، ولكننا نحترمها .في إطار البواكير المنظمة للموروث السابق ، كانت أولاً حركة الأرض العربية الفلسطينية التي نشأت عام 1959 بدفع من المد الناصري في المنطقة العربية ،وبدفع من أصالة وحيوية الانتماء القومي لفلسطيني عام 1948 ونخبتها التضحوية ،والتي ردت على الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية ، بالقومية العربية ومقاومة الاندماج والذوبان والآسرلة ، وقد كلفها هذا الطرح حياة مؤسسيها سجنا وطردا ،كما حصل مع حبيب قهوجي وجريس خوري الذين طردا من الوطن ، والمرحوم المناضل صالح برانسي الذي توفى في قريته الطيبة وهو مكبل بالإقامة الجبرية .وكانت ثانيا حركة أبناء البلد التي نشأت في بداية السبعينات من القرن الماضي ، وشقت نفس طريق حركة الأرض ، وتبنت نفس المنظورات : الهوية الوطنية ، البعد القومي ، الدولة الديمقراطية الواحدة ، مقاومة الاندماج والآسرلة ، كما أضفت على مضامين منظوراتها معاني ومقولات يسارية وطبقية متطورة ، وبالتمايز عن حركة الأرض ، تحولت حركة أبناء البلد من تنظيم محلي بحدود أم الفحم إلى تنظيم سياسي قطري احتل موقعا مؤثرا في تيار الحركة الوطنية الفلسطينية في أراضي عام 1948 ،ومن ابرز إسهامات حركة أبناء البلد دعوتها إلى إقامة مجتمع ديمقراطي – علماني– موحد في عموم فلسطين التاريخية ، يكون المدخل لحل المسألتين اليهودية والعربية وإنهاء الصراع إلى الأبد ، وهى كحركة الأرض لم تنجوا من الملاحقة والبطش والاعتقال ، بينما لم يزل أمينها العام محمد كناعنة يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
ويمكن القول ثالثا ، الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي تعود أصوله للحزب الشيوعي الفلسطيني ،والذي أعيد تأسيسه عام 1948، وهو يُعرف نفسه كحزب عربي – يهودي ، ومنظمة سياسية أممية ، وقدم فكر ورواد كبار في مقاومة الفكر الصهيوني ، توفيق زيادة ، اميل توما ، ماير فلنر ، اميل حبيبي ، وغيرهم ، ولعب دورا مركزياً في الدفاع عن حقوق العرب في إسرائيل ، كما استمر مناهضا للسياسات العامة للحكومات الصهيونية ، بينما لم يصوب نقده للطابع اليهودي للدولة ارتباطاً بمفهومه الخاص لحق تقرير المصير والوطنية الإسرائيلية .التحق عزمي بشارة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي في نهاية السبعينات ، ونشط في أواسط الطلبة في الجامعات الإسرائيلية ، وبرز كقائد طلابي مؤثر ، واختلف مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي في أكثر من قضية فكرية وسياسية ، أهمها قضايا طبيعة الدولة والمساواة ، وبلغته: فان المساواة بدون تغيير الطابع اليهودي للدولة إنما هي اندماج وأسرلة ونفي للهوية الوطنية .
جمع د. عزمي بشارة بين مفهوم المساوة الذي طرحه الحزب الشيوعي بعد أن رفعه من مستوى المطلب الحقوقي الإصلاحي إلى مستوى المطلب السياسي الجذري ، وبين الهوية القومية لعرب عام 1948 التي احتلت محور خطاب حركة الأرض ، ولكن بعد أن وضعها في إطار صيغة دولة ثنائية القومية . . وإذا كانت صيغة الدولة ثنائية القومية ، تنطوي نظريا على موانع معينة لكردنة الجماعة الفلسطينية، وتوفر حماية ما لوحدة الهوية الفلسطينية ،واستمرار خط تواصلها مع الهوية العربية ، وهى تتبدى كما لو أنها الحل الواقعي –الممكن ، أو الحل الوسط بين فكرة الدولتين وفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، فإنها ، أي صيغة الدولة ثنائية القومية هي في التقديرات الأولية تبدو كأنها أقرب لصيغة التصالح مع الواقع ، أي أنها شكل من أشكال إعادة التقاسم الحقوقي للواقع والدولة ، وهى تنطوي نسبيا على التباسات ومخاوف بشأن حق العودة ، بينما صيغة دولة ديمقراطية واحدة هي أقرب لصيغة إعادة بناء الواقع بشكل جذري ، من حيث أنها تجيب مباشرة على الأصل الكولونيالي - الامبريالي للصراع الذي هو المصدر الأول للكوارث والحروب في المنطقة العربية ، فضلا عن حلها المضمون لحق العودة .حتى صيغة الدولة ثنائية القومية التي يتبناها حزب التجمع الوطني الديمقراطي ورئيسه د.عزمي بشارة ، والتي تتضمن في بعض معانيها الاعتراف بالوطنية الإسرائيلية ، فهي في المنظور الصهيوني تعتبر مساسا بالمحرمات الإسرائيلية ،وخروج عن الحدود المرسومة للعبة السياسية والحزبية داخل إسرائيل ، والحق أن عدم الامتثال لقوانين اللعبة الإسرائيلية ، هي عملية حدثت أكثر من مرة في تاريخ نضال الفلسطينيين في أراضي عام 1948 ، وهى تختزن من التراث والمعطيات والتراكمات والتضحيات والحوافز ما يسمح باستمرارها ، بينما ميزة نهوضها على يد د. عزمي بشارة والتجمع ، أنها جاءت في ظل سياقات موضوعية وذاتية قاسية ، فمن انهيار الاتحاد السوفيتي واشتداد الهجوم الأمريكي على الأمة العربية والعراق، ثم وصول الانتفاضة الفلسطينية إلى طريق مسدود وعدم نجاحها في تحقيق أهدافها السياسية، إلى اتفاقيات أوسلو التي تجاهلت مصير الفلسطينيين في أراضي عام 1948، وما تركه كل ذلك من تداعيات خطيرة على الحالة المعنوية والسياسية للحركة الوطنية في الداخل، وما رافقه من انتعاش أطروحات الآسرلة، كل ذلك كان يعطي خصوصية لتجربة د.عزمي بشارة والتجمع من حيث عدم التسليم بحقبة الاختراقات والانهيارات والمحرمات، والتقدم بتبني خطاب كان بجمعه المهام اليومية المطلبية والمهام السياسية بعيدة المدى يمارس استمرار خط ممانعة الواقع، والمعطيات والاضطرابات والتشويشات التي ترتبت عليه. يمكن رد بعض أسباب صعود د. عزمي بشارة والشهرة التي حاز عليها، والهجمة الإسرائيلية التي تعرض وما زال يتعرض لها، في تبني خطاب سياسي قومي ديمقراطي كان يتطابق مع عمق الهوية الفلسطينية وتطلعها المستقبلي، ومنحازا لتيارات المقاومة العربية، كما انخراط ومتابعة مكثفة لهموم الفلسطينيين في الداخل، وتواصل أكاديمي وسياسي وجماهيري في الأراضي المحتلة والشتات،كما أطروحات فكرية تحمل الرجل بما يمتلك من مواهب فردية وإمكانيات ذهنية ومعرفية عالية همها الأكبر، مساهما بعمق في ميادين الديمقراطية، والمجتمع المدني، والتنمية، والوحدة ، والحداثة ، والتراث ، والدولة المعاصرة ، فضلا عن كم كبير من المقالات الرصينة الجادة . وبمقياس الثقافة بمعناها الواسع والتي يمتد أفقها ليشمل التراث والفكر والسياسة والمقاومة والنهضة والحداثة والتنوير والتجديد ، فان د. عزمي ينخرط كواحداً من النخبة الفلسطينية المساهمة في تعزيز قيم الحرية والمساواة والعدالة، وواحدا من النخبة الفلسطينية المنتجة للخطاب الفلسطيني الوطني النهضوي بأفقه العربي القومي الوحدوي الديموقراطي المعاصر .
عُرِف عزمي بشارة بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية