تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
26 نوفمبر, 2001

فلسطينيو الداخل يخوضون معركة الدفاع عن هويتهم القومية

بلال الحسن 

أصبح موعد محاكمة الدكتور عزمي بشارة عضو الكنيست الاسرائيلي قريبا، بعد أن تم نزع الحصانة البرلمانية عنه يوم 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، في جلسة استمرت يومين، وصوت فيها 61 نائبا مؤيدين مشروع القرار.

صوت ضد عزمي بشارة نواب اليمين الحاكم في اسرائيل بزعامة شارون، ونواب اليمين المتطرف، ومعظم نواب اليمين الديني، وبعض نواب حزب العمل (اليساري داعية السلام كما يقولون).

والتهم التي وجهت لعزمي بشارة، وتم استنادا اليها اتخاذ قرار رفع الحصانة النيابية عنه تمهيدا لمحاكمته هي: تصريحاته في مدينة أم الفحم (حزيران 2000) وفي دمشق (حزيران 2001)، وهي تصريحات تحدث فيها مؤيدا لمقاومة الشعب اللبناني ولعمليات حزب الله ضد الجيش الاسرائيلي في جنوب لبنان، والتهمة الثانية هي أنه نظم زيارة وفود من فلسطينيي 1948 لأهاليهم وأقاربهم اللاجئين منذ العام 1948 الى سوريا.

حرك التهمة ضد عزمي بشارة المستشار القضائي للحكومة الياكيم روبنشتاين، بناء على تقارير من المخابرات الاسرائيلية، وهو الذي أوصى بتقديمه الى المحاكمة، وطلب من الكنيست رفع الحصانة عنه.

وتستحق قضية عزمي بشارة أن تحظى باهتمام عربي واسع، رسمي وشعبي، حزبي ونقابي، نشاط تتولاه منظمات سياسية، ومنظمات حقوق الانسان، ومنظمات المجتمع المدني كافة، ذلك أن محاكمة عزمي بشارة ليست محاكمة فرد، بل هي محاكمة لمليون فلسطيني يقيمون في وطنهم تحت حكم دولة اسرائيل، محاكمة هدفها منع هؤلاء الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم، ومن المطالبة بحقوقهم السياسية والثقافية، محاكمة هدفها تخويف الفلسطينيين وتدجينهم، وقطع صلتهم بشعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية. لقد هبت جميع منظمات الفلسطينيين داخل دولة اسرائيل لتعلن تأييدها لعزمي بشارة في معركته، وتحركت برلمانات غربية، ومنظمات حقوق انسان غربية، للهدف نفسه، وفي اطار هذا النشاط الفلسطيني والدولي، يجب ملء فجوة النشاط العربي بموقف متحرك وفعال.

لقد برز عزمي بشارة في أوساط الأقلية الفلسطينية داخل دولة اسرائيل، كظاهرة سياسية وثقافية جديدة، واستطاع بثقافته ووعيه وروحه النضالية، أن يحول أفكاره الفردية الى رأي عام فلسطيني، وأن ينقل النضال الفلسطيني داخل دولة اسرائيل من مرحلة الى مرحلة.

لقد كانت اسرائيل تسعى منذ احتلالها لفلسطين عام 1948، الى تدجين الأقلية الفلسطينية التي بقيت فوق أرضها، وتحويلهم الى اسرائيليين، ولكن اسرائيليين من دون حقوق كاملة، أي مواطنين اسرائيليين من درجة ثانية، لأن الدرجة الأولى يحتلها اليهود، ما دامت اسرائيل رسميا وعلنيا هي دولة اليهود فقط. وعانى الفلسطينيون على مدى سنوات طويلة من الحكم العسكري المباشر، ومن التمييز العنصري، ومن سلب الأرض الزراعية، واجبار الآلاف منهم على التحول من مزارعين الى عمال يعيشون بمقدار ما يرضى عنهم رب العمل الاسرائيلي.

وظهرت في اطار هذا الوضع أحزاب اسرائيلية تضم فلسطينيين (الحزب الشيوعي)، دافعت عن الفلسطينيين ودعت الى رفع الظلم عنهم، ولكن في اطار الاعتراف باسرائيل، والاعتراف بصهيونية الدولة، والدعوة الى اندماج الفلسطينيين بدولة اسرائيل. ونتجت عن هذا الشعار دعوة الى المساواة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وتركز النضال المستند الى هذا المنطق على المطالبة بوقف سلب الأراضي، والسماح للفلسطينيين بالدراسة في المدارس والجامعات مثل الاسرائيليين، والدخول الى النقابات مثل الاسرائيليين، ونيل المساعدات المخصصة للبلديات مثل الاسرائيليين. أي ان الهدف الأساسي لهذا النضال كان «أسرلة» الفلسطينيين، وتحويلهم الى مواطنين اسرائيليين من دون ظلم خاص بهم.

بدأ عزمي بشارة نضاله السياسي برفض هذا المنطق، وأخذ يبشر به في الخطب والكتابات والأبحاث، الى أن تمكن من جعل الفكرة موضوعا للنقاش بين الأحزاب وبين الفلسطينيين. ومن أقواله في هذا الصدد «لا تشكل الأسرلة التامة خيارا فعليا أمام العرب في اسرائيل، وذلك لسببين; أولا لأنها لا تتضمن حلا للقضية الفلسطينية، وثانيا لأن اسرائيل ليست دولة الاسرائيليين وانما هي دولة اليهود، ولذلك فان «أسرلة» العرب في اسرائيل معناها نبذهم الأبدي الى هامش الدولة اليهودية، الأمر الذي يعني تشويههم حضاريا وقوميا، وبالتالي خلقيا». ومن أقواله في هذا الصدد أيضا «ان النضال ضد التمييز يعبر عن رغبة في الاندماج....... والحزب الشيوعي في اسرائيل هو أبو شعار المساواة...... ولهذا فهو، بمعنى معين، أبو فكرة الاندماج في الدولة...... ولكن توجهه اكتفى بصيغة التعريف السلبي للمساواة بأنها عدم التمييز، وتختلف هذه الصيغة عن التعريف الايجابي للمساواة، والذي بموجبه تتحول اسرائيل الى دولة لكل مواطنيها بدلا من كونها دولة اليهود فقط».

استنادا الى هذا الفهم الجديد، بدأ عزمي بشارة معركته السياسية، مصرا على استعمال الوسائل الديمقراطية لمحاربة الوضع غير الديمقراطي القائم في اسرائيل، داعيا الى الاعتراف بالسكان العرب في اسرائيل كأقلية قومية، أي الاعتراف بحقوقهم الجماعية، والاعتراف بحقهم في ادارة شؤونهم الثقافية، والتوجه نحو تكريس «تعددية ثقافية تترك للأقلية القومية مجالا من الادارة الذاتية». على قاعدة هذا الفهم، وعلى قاعدة هذا التوجه، انتقل عزمي بشارة من العمل التثقيفي الى العمل السياسي التنظيمي، فأسس «التجمع الوطني الديمقراطي»، وتحالف مع أحزاب فلسطينية قائمة (حركة أبناء البلد)، وخاض غمار الانتخابات ونجح وأصبح عضوا في الكنيست الاسرائيلي (عام 1996). وهنا يجب أن نلاحظ أمرا أساسيا، وهو أن عزمي بشارة وصل الى الكنيست من فوق منصة فلسطينية، ولم يصل اليها عبر أي منصة صهيونية، بينما كان النواب العرب في الكنيست، ولسنوات طويلة، يترشحون على قوائم الأحزاب الصهيونية، الى أن نمت الحركة الوطنية الفلسطينية (منظمة التحرير ونشاطاتها)، فانفصل بعض النواب عن الأحزاب الصهيونية، وشكلوا أحزابهم المستقلة، وفازوا بالانتخابات على أساس ذلك، انما بعد أن مروا بمرحلة التعاون مع الصهيونية.

وبما أن عزمي بشارة ينادي بابراز شخصية الأقلية الفلسطينية داخل دولة اسرائيل، ونيلها لحقوقها كأقلية ليست اسرائيلية، فكان لا بد من التركيز على مسألتين; مسألة الهوية الفلسطينية لهذه الأقلية، وهي هوية يتم التعبير عنها بالعلاقة مع الحركة الوطنية الفلسطينية بمؤسساتها وفصائلها، ومسالة الهوية العربية لهذه الأقلية وهي هوية يتم التعبير عنها بالعلاقة مع الدول العربية. وتطبيقا لهذا أنشأ عزمي بشارة علاقة وثيقة مع السلطة الفلسطينية ومع بعض الفصائل الفدائية، ثم أنشا علاقات متعددة مع بعض الأطراف العربية، فكانت له علاقة مع مصر ومع وزير خارجيتها عمرو موسى، تعززت وتوطدت وتحولت الى نوع من التحالف الفكري والسياسي، وعلاقة ثانية مع الأردن بالاتجاه نفسه، وذلك لتأكيد اعتراف العرب بالهوية القومية لحزبه، وبالهوية القومية للأقلية الفلسطينية في اسرائيل. ولكن مصر ترتبط مع اسرائيل باتفاقات كامب ديفيد، ويرتبط الأردن مع اسرائيل باتفاقات وادي عربة، الأمر الذي قد يعني أن عزمي بشارة وحزبه قد أنشآ علاقة مع الدول العربية التي وقعت معاهدات سلام مع اسرائيل فقط، ولذلك كان معنيا باقامة علاقات مع دولة عربية لا تنخرط في اطار معاهدة سلام مع اسرائيل، لتأكيد المعنى الشامل والقومي لهذه العلاقة، وهنا كانت سوريا هي الدولة التي تفهمت هذا المطلب، واستقبلت عزمي بشارة، وما لبثت العلاقة أن تطورت بسرعة بينهما، واتسمت بالتعاون والثقة. وفي هذا الصدد يقول عزمي بشارة ان التيار القومي يسعى الى «التأكيد والعمل على تواصل العرب في الداخل (الفلسطينيون) مع الأمة العربية، ليس بهدف التطبيع مع اسرائيل، ولا كجسر سلام، وانما لتعزيز واغناء الهوية العربية في الداخل بعد أعوام طويلة من العزلة، وبما في تبادل الآراء والخبرات من فائدة».

هذه لمحة موجزة عن الخط السياسي الذي يمثله عزمي بشارة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يقوده، وهو الخط السياسي الذي قلب معايير ومفاهيم العمل السياسي الفلسطيني داخل دولة اسرائيل، ونقله من موقع الى موقع، وهو أيضا الخط الذي دفع اليمين الاسرائيلي الى رفع الحصانة البرلمانية عنه وتقديمه الى المحاكمة. (محاكمتان; الأولى في 10/12/2001 حول اشرافه على تنظيم زيارات المواطنين لأقاربهم اللاجئين في سوريا، والثانية في 21/2/2002 حول تصريحاته المؤيدة للانتفاضة ولنضال الشعب اللبناني ضد الاحتلال).

في جلسة النقاش حول رفع الحصانة، سمع عزمي بشارة من النواب الاسرائيليين اتهامات كثيرة وقاسية، وقد تحمل كل ذلك برباطة جأش، ثم وقف ليرد عليهم بخطاب سياسي متماسك، وفي خطابه لم يتراجع عن مواقفه السياسية، بل أعاد عرضها وأصر عليها، ثم انتقل الى الهجوم، فهاجم حجج منتقديه وفندها ووضع القضية في اطارها الصحيح، فهي ليست معركة ضد عزمي بشارة ومواقفه، بل هي معركة ضد الأقلية الفلسطينية التي بدأت تتحدث لغة سياسية ترعب المؤسسة الصهيونية. وأعلن عزمي بشارة أنه سيخوض المعركة حتى النهاية، وسيخوضها أمام المحكمة بالذات، فهو لن يتراجع ولن يتذلل، ولن يطلب نقض القرار من المحكمة العليا، سيذهب الى المحكمة ليواصل المعركة السياسية هناك. قال عزمي بشارة في جلسة الكنيست:

«لا توجد هنا ديمقراطية مدنية ولم تكن البتة، بل هي ديمقراطية صهيونية حتى في صلب تعريف الدولة لنفسها». وقال «على ماذا يجري النقاش هنا؟ على أنني قلت ينبغي توسيع حيز المقاومة (الفلسطينية)، وأنه ينبغي مقاومة حل اسرائيلي قسري ومرفوض؟ نعم قلت ذلك..... انني ضد حل مفروض على الشعب الفلسطيني». وقال «يقولون ان عزمي بشارة أبدى تعاطفا مع مقاومة الاحتلال (في لبنان)، وهو مسرور لأن اسرائيل هزمت في لبنان، وأنا فرحت لأن لبنان تخلص من اسرائيل....... أنا مسرور لأن الشعب اللبناني تخلص من الاحتلال الاسرائيلي. ما هو السيئ في هذا؟». وقال «كفوا عن الهراء، لا توجد هنا ديمقراطية، توجد هنا (قوموية) تدافع عن نفسها ضد الديمقراطية....... تريدون جعل الديمقراطية وجهة نظر صهيونية، أنتم تريدون ديمقراطية يهودية، فهنيئا لكم بما تريدون». وختم خطابه متحديا «سنذهب الى المحكمة وسنلتقي هناك».

ويبدو أن كلمة عزمي بشارة قد اثرت في بعض النواب الاسرائيليين، فتقدم النائب أمنون روبنشتاين باقتراح حل وسط، طالب فيه بأن لا يتم نزع الحصانة على اساس تصريحات عزمي بشارة السياسية، فهذا حق له، كما أن نزع الحصانة بسبب «الرأي» يضر بسمعة اسرائيل الديمقراطية، واقترح بالمقابل أن يتم نزع الحصانة على أساس السفر الى سوريا كدولة عدوة.

وتحدث نواب آخرون منهم النائب يوسي ساريد الذي صوت ضد رفع الحصانة، لأنه يؤيد حرية التعبير للنائب. ولكن عزمي بشارة رفض هذا المنطق أيضا، وقال بعد رفع الحصانة عنه «ان المعركة ليست على حرية التعبير كما يحاول البعض أن يطرحها، انما هي معركة سياسية، ضد قوى سياسية....... هدفها نزع الشرعية عن التيار الوطني، وتخويف الجماهير العربية، ومحاولة تدجينها وأسرلتها بحيث يكون بالامكان استيعابها»، وقال «الديمقراطية الاسرائيلية تسير نحو ديمقراطية الأسياد، أي نحو الأبارتايد (التمييز العنصري)».

وشرح بعد ذلك موقفه العملي قائلا «لن نستأنف ضد القرار (لدى المحكمة العليا)، نريد الذهاب الى المحكمة بغرض الانتصار، وليس بهدف التحسر ولعب دور الضحية، وفي المحاكمة سنلقن النواب الاسرائيليين وقادتهم درسا في الديمقراطية الحقيقية، لأن هذه المحاكمة ستتحول بسرعة الى مسرح ادانة لأصحابها».

وقد تحرك بعض الاسرائيليين الشرفاء العاملين في منظمات حقوق الانسان، وقرروا العمل من أجل الغاء قرار رفع الحصانة، وقالوا: اذا كان عزمي بشارة يرفض الذهاب الى المحكمة العليا من أجل هذا الهدف، فنحن سنقوم بذلك نيابة عنه، وسنقول للمحكمة ان الدافع وراء قرار الكنيست هو «تمييز واضح ضد العرب».

واذا كانت قضية عزمي بشارة قد حركت حتى بعض الاسرائيليين، فهل يجوز بقاء السياسيين العرب، والبرلمانيين العرب، والمثقفين العرب، ومؤسسات حقوق الانسان العربية، بعيدة عن تنظيم نشاط فعال، يرفد نشاط الأقلية الفلسطينية التي تناضل بدأب لثبيت هويتها الفلسطينية والعربية؟

انها ليست مسألة دفاع عن فرد، إنما هي مسؤولية الدفاع عن جزء من الشعب الفلسطيني يقارع المحتل الاسرائيلي فوق الأرض المتنازع عليها، ويشكل بذلك الوجه الآخر للانتفاضة الفلسطينية.

فليتحرك الجميع لأن هذا هو واجبهم.


الشرق الأوسط