رشاد أبو شاور
عزمي بشارة، المفكّر، الأكاديمي، الروائي، عربي فلسطيني من فلسطينيي الـ48، الذين رموا بوصف قبيح علي مدي سنوات: (عرب إسرائيل)، رغم صبرهم وصمودهم...
هو حاليّاً عنوان بارز في الصحف العربيّة، ومواقع الانترنت، وموضوع لمقالات، وبيانات تضامنية، وإشاعات تحاول النيل منه، فهو مستهدف جديّاً من أجهزة أمن العدو، وهو في واقع الحال عنوان لقضيّة، قضيّة شديدة الوضوح وغامضة أمنياً، غموضاً مقصوداً لتسهيل تلفيق تهم تكفل (تدمير) عزمي بشارة، وإخراس صوته...
قضية بشارة شديدة الوضوح، فهوعربي ـ هو يصّر في كل لقاءاته علي انتمائه العربي غير العنصري، الديمقراطي نهجاً وممارسة، المعادي للفاشية وكّل مستنسخاتها، وسلالاتها المعاصرة ـ فلسطيني، يعيش علي أرض وطنه الذي ولد علي ثراه ولم يستجلب من المجر، أو أمريكا، أو أثيوبيا، أو روسيا أو..، ليمنح المواطنة وهو في المطار، في (دولة) بلا دستورعن سابق عمد وإصرار، حتي لا تفضح هويتها المغلقة الدينيّة الأصوليّة العنصريّة.
في (دولة) اللادستور يدور الصراع بين (أقليّة) عربيّة فلسطينيّة كانت أكثرية ساحقة في زمن غير بعيد، وأكثرية جلبت من شتّي بقاع العالم لتحتّل بيوتاً ليست لها، وحقولاً لم تزرعها، وأرضاً لم تحرثها، وصبّاراً وتينا، وزيتوناً يتلذذون باقتلاعه...
قبل عزمي بشارة وقع كثير من عرب فلسطين في قبضة الجهات (الأمنية) للاحتلال. علي سبيل المثال، قادة وكوادر حركة الأرض: منصور كردوش، صالح برانسي، وغيرهما لوحق كثيرون، وتمّت مساومة بعضهم علي حياته إذا لم يرحل، فرحّل بترانسفير شخصي، وكما كل عربي صالح هو الميّت فكّل عربي فلسطيني مرشّح للترحيل والتهجيج عن أرضه.
الحّق أن بعض من رحّلوا لم يصمتوا، بل واصلوا مسيرتهم النضالية، وتشبّثوا بفلسطين الوطن والحّق الذي تتوارثه الأجيال منذ ألوف السنين، وحملوا صوت أهلهم في الداخل، وكتبوا وفضحوا ممارسات هذا العدو...
في سياق الحرب المعلنة، التي لم تتوقّف علي أهلنا الذين بقوا في فلسطين رغم الاحتلال عام 48، وهول صدمة ضياع البلاد، وتشرّد الأهل، تندرج (قضيّة) عزمي بشارة.
قضية! نعم، فهي ليست قضيته وحده، ولأنها كذلك، ولأنه شخصيّاً أرادها قضيّةً للعرب الفلسطينيين، فالمطاردة تلاحقه منذ سنوات وتضيّق عليه الخناق، والهدف توجيه ضربة للفلسطينيين، والحقوق التي يطالبون بها، وبّث الخوف في صفوفهم، وجعله عبرة لغيره كما يتوهمون.
شعار دولة لكّل مواطنيها الذي طرحه بشاره مع إخوانه في التجمّع يستثير الصهاينة: أجهزة أمن، قيادة جيش، ساسة، رجال دين، صحافيون يلعبون دور الكلاب البوليسيّة التي تبّز كلاب سجن أبوغريب، بأقلامهم المدرّبة علي تشمم رائحة (العربي) وملاحقة أفكاره، والنباح عليه بكلمات طافحة بالعنصريّة والحقد..
واحد منهم كتب في يديعوت أحرونوت تحت عنوان (إلي متي سنترك بشارة يصول ويجول؟!): وتجربة الماضي تشير إلي أن أتباع التيّار الراديكالي مثل قادة حركة (الأرض) قد انزلقوا بالفعل إلي الهاوية، وانتقلوا من الأقوال إلي الأفعال، وهم ليسوا وحدهم في ذلك، وحتي لا يحدث هذا الأمر مرّةً أخري يتوجّب وضع حّد لبشارة...
هذا واحد منهم يكتب في الصحيفة الأكثر انتشاراً في (الدولة) الديمقراطيّة (الوحيدة) في الشرق الأوسط! (ترجمة الدستور الأردنيّة 16 نيسان ـ ابريل الجاري).
في الستينات التي يشير إليها الصحافي العنصري الأمني، زجّ بالأستاذ صالح برانسي في السجن لمدّة عشرة أعوام تقريباً بتهمة الاتصال مع المخربين.. يعني الفدائيين!
شولاميت الوني حذّرت بشارة من (الملّف الامني)، فأجهزتهم الأمنيّة قادرة ببساطة علي تلفيق ملّف مكتّظ بالأكاذيب، غير قابل للكشف لأسباب أمنيّة، والقضاء عندهم جاهز لتنفيذ الحكم وفقا للملّف!...
من قبل، في الستينات، وجهوا ضربات لقادة حركة الأرض، ولما تمثّله الحركة التي برزت في الحقبة الناصريّة، ورفضت المشاركة في (الكنيست)، وطرحت في صلب مهامها: الانتماء العربي، والتشبّث بالأرض، وحماية المجتمع الفلسطيني من التشويه، وعدم الاعتراف بالأمر الواقع الزائل حتماً.
وكما تعرّضت حركة الأرض للضربات التي سهّل نفاذها بسبب اندحار المشروع القومي العربي، فإن الكيان الذي هو في حالة حرب مستمرّة علي الشعب الفلسطيني، يستهدف حاليّاً الحركة الإسلاميّة الفلسطينيّة، ورموزها الذين في مقدمتهم الشيخ رائد صلاح، ويزّج بهم في السجن، وقد بدأ هذه الحملة منذ الانتفاضة الأولي، عقاباً لهم علي الدور المشرّف الداعم للأهل في الضفّة وغزة : دعم تمويني، رعاية أيتام، استنفار دائم للدفاع عن الأقصي...
ولأن المشروع الصهيوني يقوم علي نفي الفلسطيني، ويعمل علي تدمير هويته، فإن كل حالة استيقاظ تشكّل له قلقاً، وتستفزّه، هو المستنفر طيلة الوقت ما دام هناك طفل فلسطيني يولد، وترضعه أمّه حليب الانتماء لفلسطين، والنمو وفي الروح إرادة علي تحرير الأرض.
الهجمة علي عزمي بشارة هي جزء من الحرب التي لم تتوقّف علي الشعب الفلسطيني، لا تحت الاحتلال في الـ48، ولا في الضفّة والقطاع، ولا في الشتات والمنافي.
لنتأمّل ما يجري علي أرض فلسطين: في النقب لم تتوقّف محاولات ترحيل القبائل العربيّة الفلسطينيّة من أرضها، وها هي الحملة تشتّد، فآخر ما سمعته وقرأته أن (جيش) الاحتلال يريد إنشاء معسكرات وسيصادر الأرض، هذا بعد فشل محاولات إغراء أهلنا بتبديل أرضهم ومراعيهم وقراهم غير المعترف بها منذ تأسيس (الدولة)، بأرض نائية بالكاد تكفي لبناء بيوت لسكنهم، وهو ما يعني حرمانهم من ثروتهم الحيوانيّة التي يعتاشون منها، بما سيجرّه هذا عليهم من فقر وضيق عيش.
قضيّة عزمي بشارة جاءت بعد تصريحات رئيس الشاباك يوفال ديكسن، التي حذّر فيها من خطر العرب في الداخل علي (إسرائيل)! الكيان الصهيوني جعل من الجندي شاليط الذي أسر وهو بكامل سلاحه الميداني، قضيّة يتحدّث فيها قادة الدول من أمريكا إلي أوربة.
عزمي بشارة هو عنوان لقضيّة حقيقيّة، كما صالح برانسي من قبل، وكما الشيخ رائد صلاح، وكما كل مناضل جماهيري ميداني سخّر حياته لوطنه وشعبه. لهذا لا بدّ أن يكون الشعار:عزمي بشارة لست وحدك.. وهو شعار لن يكون وقفاً علي بشارة، فهو تجسّد في التفاف جماهيرنا في الداخل حول الشيخ رائد وإخوانه عندما اعتقلوا...
هذا الشعار يعني: لن نسمح لهم بأن يفترسوك، فأنت تفضح الآن عنصريتهم، وبوليسيّة كيانهم...
لا مجال الآن لاستذكار الخلافات، والتباينات، بينما الحرب ـ نعم الحرب ـ بكافة أشكالها تلاحقنا، وتحيط بنا، تلتهم أرضنا، وتحيل حياتنا إلي جحيم...
ليجتهد عزمي بشارة وإخوانه في إدارة المعركة، ونحن الفلسطينيين حيثما كنّا، في الوطن، أو الشتات علينا مسؤولية وطنية تدفعنا لفعل كل ما نستطيع، فعزمي بشارة ليس مستهدفا بشخصه، ولكن بما يمثّله، فهو عربي فلسطيني، وهو مفكّر، وهو سياسي، وهو صاحب شعار خطر: دولة كل مواطنيها في حرب، وإن كان لا يعجب بعضنا، فهو يربك (الدولة) التي ما زالت بلا دستور؟ وبلا حدود معروفة، والتي تريد أن تكون دولة يهوديّة (صافية)!
(الدولة) التي لم تستقر منذ تأسيسها، دولة الحرب المستمرّة علي كل الجبهات، يخيفها أن تظهر حركات سياسيّة فلسطينيّة، تتصدّي لنهب الأرض، ومسخ الشخصيّة، وتغريب الفلسطيني في أرضه.
عدونا يخوض حربه معنا بالقطعة. يجزّئنا لتسهيل التهامنا أرضاً، وتفتيت قوانا البشريّة، فنحن ضفّة، وعرب 48، وقطاع، ومدن وقري، وأفراد...
حتي نفشل خطط هذا العدو العنصري المفترس ينبغي أن نخوض معاركنا بأقصي طاقاتنا، وعلي كّل الصعد...
عزمي بشارة لست وحدك!.. إنهم لا يستهدفونك وحدك، هم يتربصون بك منذ سنين ولذا: يجب أن تدار المعركة ببراعة، بحيث يكسب شعبنا، وتفتضح عنصرية عدونا أكثر...
عُرِف عزمي بشارة بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية