جوزف سماحة
اليوم عزمي بشارة. غداً ضحية أخرى. لإسرائيل طبعاً. لإسرائيل بالدرجة الأولى. ولكن، أيضاً، لمتضامنين عرب شعار بعضهم: “أنا أتضامن إذاً أنا موجود”. سوى أنه، هذه المرة، يعتاش هذا “الوجود” من التلاشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. لقد مُنع عزمي بشارة، مرة، من زيارة لبنان. وهو كان ولا يزال يريد زيارة بلد أشاد بمقاومته وذهب إلى المحاكمة جراء ذلك. ألم يكن في وسع متضامني بيروت توجيه دعوة؟ أم أنه الأفضل الاكتفاء بمعاملة الرجل كنجم تلفزيوني؟
عزمي بشارة فضيحة يومية لإسرائيل. وهو كذلك لأنه يصيبها في نقاط مؤذية كثيرة. بينها، طبعاً، طرحه المسألة العربية ضمن حدود 48 كقضية قومية وليس، فقط، كموضوع مساواة اجتماعية. وبينها تبخيس ادعاءاتها الديموقراطية. وبينها، أيضاً، تقديم صورة عن سياسي عربي يجمع إلى الحس التكتيكي البُعد الاستراتيجي، والثقافة الواسعة، والنزاهة الشخصية. وبينها معرفة مؤكدة بالأيديولوجيا الصهيونية، وتاريخها، وتحولاتها، ومدارسها، ونواقصها، وما يقتضيه ذلك من اطلاع على التاريخ الكوني الحديث وموقع اليهود فيه وسياسات الدول الكبرى في المنطقة.
غير أن هذه الفضيحة اليومية، القادرة على نقل الرجل من قفص الاتهام إلى منصة القاضي، لم يكن في إمكانها أن تكون كذلك لولا ارتكازها على منظومة من الأفكار المتماسكة.
إن هذه المنظومة، وهذا واحد من أسرارها، تتضمن محاكمة للكثيرين من العرب الذين يؤدون فعل التضامن كفاصل بين خطأ وخطأ، لا بل كتغطية، أحياناً، على ما سبق وما يلحق.
هل يمكن التضامن مع عزمي بشارة من دون مراجعة لموقف تقليدي دام عقوداً من عرب 48؟ لقد أدين هؤلاء لأنهم بقوا ضمن شروط صعبة. حاولوا المقاومة والتكيّف. أخطأت قياداتهم بالتأكيد. ولكن أحداً لم يعتبر أن مهمته مخاطبتهم وأنه يملك، إذا أحسن المخاطبة، احتياطياً فعالاً يساعد في تعديل موازين القوى لصالحه وصالحهم.
هل يمكن لقوميين ويساريين وأصوليين التضامن مع عزمي بشارة من دون طرح أسئلة على المآل الذي وصلت إليه نظرياتهم. يمكن الجزم بأن الغالبية الكاسحة من “النخبة” المتحركة لم، ولن، تكلّف نفسها التدقيق في “أطروحات الحركة القومية الديموقراطية”، وهي أطروحات تمثل تحدياً فكرياً مرموقاً للتيارات المشار إليها ولغيرها من التي قفز أقطابها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
هل يمكن التضامن مع عزمي بشارة من دون اكتشاف أن قوة خطابه قد تكون كامنة في ما لا يثير إعجاب المتضامنين. لم يكن ممكناً لمن تحاكمه إسرائيل اليوم أن يصوغ موقفاً متماسكاً ضد الصهيونية لو لم يسنده، كما فعل في دوربان وقبلها، إلى عداء لكل نزعة عنصرية ولكل اضطهاد يطال قوماً من حيث هم كذلك. وينطبق الأمر، أول ما ينطبق، وفي هذه الحالة تحديداً، على تقييم النازية وجرائمها الكثيرة بما في ذلك ضد اليهود وغيرهم.
هل يمكن التضامن مع عزمي بشارة، الذي “فضح زيف الادعاء الديموقراطي” في إسرائيل، من دون امتلاك الجرأة الأخلاقية للقول بأن ما فعله هو، عملياً، فضح حدود هذه الديموقراطية ليس أكثر. إن هذه الجرأة تفضي إلى الاعتراف بأن إسرائيل تقوم بمحاكمة لخصم لدود لها (لطبيعتها الصهيونية التي هي الصيغة الوحيدة لوجودها) أفضل من محاكمات سياسية يتم السكوت عنها وتجري في بلداننا لمواطنين لا يمثلون مثل هذا الخطر. لا يمثلون أي خطر. لا بل يملكون مساهمات يمكن لها أن تكون زاداً في المواجهة.
إن من يعرف عزمي بشارة كسياسي ومثقف يستطيع أن يقدر كيفية قراءته لبيانات داعمة له. ففي هذه البيانات تشديد على “الانتماء المسيحي” و”حضور المسيحيين العرب”، واعتبار ذلك رسالة إلى العالم الغربي، ومناشدة للبابا التدخل... وهذه كلها عناوين تفوح منها رائحة الاستخدام الذرائعي الذي لا يتوافق مع الشخص ولا مع قضيته.
هذه الاعتراضات على “تظاهرة” التضامن ليست إدانة. إنها دعوة للتفكير. وهي ملحة أكثر لأن الاهتمام الشعبي بمتابعة الوقائع اظهر استعداداً جدياً للتعاطي مع المحاكمة، وتفاعلاً مع كلام يستعيد ويطور خطاباً قادراً، أكثر من غيره، على ملامسة الأسئلة الحقيقية للصراع العربي الإسرائيلي.
إن هذه المقاربة التضامنية المقترحة أكثر إفادة بقضية عزمي بشارة. فمن خصوصية القضية الفلسطينية أن الحصار لا يتداعى من الداخل، ولا حل له إلا بفرض طوق عربي ضاغط على الحصار الإسرائيلي للفلسطينيين. ولا مدخل إلى بناء هذا الطوق إذا استمر التضامن الاستنكاري على حساب الوعي النقدي.
صحيفة السفير اللبنانية
عُرِف عزمي بشارة بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية