أكاذيب الإعلام الإسرائيلي من الأردن إلى عزمي بشارة
بلال الحسن
الأزمة شاملة في المنطقة، وعنوان الأزمة هو الشلل. يضرب الشلل الأزمة في العراق وفي السودان وفي الصومال، وبخاصة في ايران. وكل هذه الأزمات أزمات أميركية، وينتج عنها شلل في الأزمة الأم، أزمة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. والشلل في هذه الأزمة متعدد الأبعاد، عربي وإسرائيلي وفلسطيني ودولي، وتتداخل هذه الأبعاد مع بعضها بعضا بحيث يصعب فصل الواحدة عن الأخرى.
نموذج على هذا التداخل، ما حدث حول المبادرة العربية للسلام. لقد اتخذت الجامعة العربية قرارا يكلف مصر والأردن الاتصال بإسرائيل لشرح المبادرة العربية ومعرفة الموقف الإسرائيلي منها. وقد بادر الملك عبد الله الثاني إلى استقبال وفد إسرائيلي في عمان، وقدم الشروحات المطلوبة، وهي شروحات يفترض بها أن تكون محكومة بالقرار العربي وبالإجماع العربي حوله. وهذا يعني أن الأردن في شروحه للوفد الإسرائيلي لا يعبر عن موقف الأردن وفهمه للمبادرة، إنما يعبر عن الموقف العربي والتزاماته. ولكن المفاجأة كانت حين عاد الوفد الإسرائيلي إلى تل أبيب، وقدم هناك تصريحات للصحافة (هآرتس) حول ما جرى مع الملك عبد الله الثاني، وأثارت التصريحات الإسرائيلية عن مضمون اللقاء ضجة فلسطينية وعربية حادة، لأن مضمون ما قاله الإسرائيليون عن اللقاء يعني أن العرب مستعدون لتعديل المبادرة بما ينسجم مع المطالب الإسرائيلية، أي إلغاؤها عمليا.
لقد نسب الإسرائيليون إلى الملك عبد الله الثاني قوله إن حق العودة هو خيار من الخيارات، وبجانبه يوجد خيار التعويض، والعرب مستعدون لبحث التعويض، بل مستعدون للمساهمة فيه حتى لا يتم إلقاء العبء كله على عاتق الإسرائيليين، ونسب الإسرائيليون للملك أن العرب لا يصرون على عودة إسرائيل إلى حدود 1967، لأنه من الممكن تبادل الأراضي بين الطرفين. كذلك نسب الإسرائيليون للملك حديثا عن القدس يلتقي مع طروحات ايهود باراك في مفاوضات كامب ديفيد 2000، والتي رفضها الرئيس الراحل ياسر عرفات. وقد قيل كلام كثير غاضب بعد نشر هذه الأقوال الإسرائيلية. ونحن لا نريد التوقف عند ذلك الكلام الغاضب، إنما نريد أن نتوقف عند النفي الأردني، فقد صدر نفي أردني رسمي للكلام الإسرائيلي، وأنه غير دقيق، وتم وضعه خارج سياقه. ونحن نريد بقرار إرادي أن نعتمد الرواية الأردنية ولا نعتمد الرواية الإسرائيلية. ما دام الأردن ينفي فنحن نريد أن نصدقه، لأنه لا يعقل أن يكون الملك، وهو المكلف بالحديث باسم العرب أن يقول للإسرائيليين أنه يتحدث باسم جزء من العرب، ويعبر عن ذلك بصيغة «أنا ومجموعة من الدول العربية» نفهم المبادرة على هذه الصيغة، ويكون بهذا التصريح قد تخلى عن المهمة الموكلة إليه، مهمة التحدث باسم العرب جميعا. نقول هذا لأننا اعتدنا طويلا على الأكاذيب في الإعلام الإسرائيلي. وأريد هنا أن أستذكر أكذوبة إعلامية إسرائيلية كبيرة، وقعت قبل مفاوضات كامب ديفيد 2000 بفترة وجيزة. في تلك الفترة كلف الرئيس عرفات أحمد قريع (أبو علاء) بإدارة مفاوضات سرية مع الإسرائيليين في ستوكهولم، وبدأ الإعلام الإسرائيلي يكشف أسرار تلك المفاوضات، مبينا أن الفلسطينيين وافقوا على كذا وكذا وبما يشكل تنازلا عن كل المطالب الفلسطينية الأساسية في قضايا الحل النهائي. وثارت ضجة كبيرة ضد أبو علاء وضد تلك المفاوضات، ووجهت إلى أبو علاء اتهامات قاسية. ثم جاءت مفاوضات كامب ديفيد 2000، وبدا كل طرف يكشف عن مواقفه، وهنا ظهر أن كل ما أعلنه الإسرائيليون حول مفاوضات ستوكهولم كان اقتراحات إسرائيلية، بينما كان إعلامهم يقول إنه اتفاق الطرفين حول تلك الاقتراحات، وظهر ببساطة أنهم كانوا يكذبون، وبدليل أن الفلسطينيين رفضوا كل تلك الاقتراحات في كامب ديفيد. وأريد أن أعترف هنا بأنني كنت واحدا من الذين وقعوا في ذلك الفخ، وساهمت في توجيه الانتقادات الحادة لـ «أبو علاء». وهذه مناسبة لأقدم له اعتذاري عما كتبته ضده في تلك الفترة (فقط). وبناء على هذه التجربة مع الإعلام الإسرائيلي، أميل إلى الاعتقاد بأن السياسيين الإسرائيليين يكررون لعبتهم، وأنهم ينسبون إلى الأردن ما يرغبون هم بأن يكون هو الموقف المطلوب. لهذا أقول وأكرر إنني أميل إلى تصديق الأردن ما دام قد نفى ما نسب إليه. وأرفض بناء موقف لا يستند إلا إلى الأقوال الإسرائيلية.
والأمر نفسه يتكرر مع قضية الدكتور عزمي بشارة. وهنا لا يقتصر مصدر المعلومات على الإعلام فقط، بل تدخل على الخط أجهزة الأمن الإسرائيلية، والتي اشتهرت بأنها أسوأ الأجهزة، وأقسى الأجهزة، في التعامل مع الفلسطينيين وقضيتهم. إنها أجهزة الاعتقال، والتعذيب، والقتل المخطط للقادة، والقتل الجماعي، وتهديم البيوت، وتهجير السكان، ورعاية الاستيطان. وهذه الأجهزة هي المصدر الوحيد حتى الآن في توجيه التهم الأمنية للدكتور عزمي بشارة. وبحسب منطقها فإن الدكتور عزمي بشارة هو خائن، يتصل مع العدو كجاسوس، ويقدم له المعلومات، وهو يمارس ذلك برخص، إذ أنه يتلقى مالا مقابل المعلومات، ثم يمارس جريمة تبييض الأموال. ومجموع هذه التهم تدفع باتجاه محاكمة عزمي بشارة كمجرم، وهي كفيلة بزجه في السجن الإسرائيلي بأحكام مؤبدة.
أما الجانب الآخر من قضية الدكتور عزمي بشارة، الجانب السياسي، والجانب النضالي، والجانب الوطني، والجانب الفكري الديمقراطي، فإنه يضيع ويتلاشى أمام هذه الاتهامات. لقد مثل عزمي بشارة وحزبه ظاهرة جديدة في العمل الوطني الفلسطيني داخل دولة إسرائيل. حارب المؤسسة الإسرائيلية في عقر دارها، وحاربها بمنطقها ووسائلها. قال: تدعون أنكم دولة ديمقراطية، إذاً لماذا لا تكون إسرائيل دولة لكل مواطنيها؟ وهنا وقع الإسرائيليون في المصيدة، فلا هم يستطيعون قبول الشعار، بحيث ينال الفلسطينيون (مليون و300 ألف مواطن) حقوقهم كاملة، ولا هم يستطيعون رفض الشعار، بحيث يعلنون أن دولتهم دولة غير ديمقراطية. وحين تبنى آرييل شارون شعار (يهودية) دولة إسرائيل، وحين منحه الرئيس الأميركي جورج بوش الموافقة على هذا النهج (اللا ديمقراطي واللا علماني)، وجد الإسرائيليون ضالتهم المنشودة في مواجهة النهج النضالي ـ السياسي الذي أطلقه الدكتور عزمي بشارة وحزبه، فيهودية الدولة هي الأساس، وعلى كل سواء كان مسلما أو مسيحيا أن يقر بذلك، وأن يتنازل طوعا عن حقوقه الديمقراطية لأنه ليس يهوديا.
إن هذا المنطق كفيل بأن يحاكم دولة إسرائيل، وأن يحاكم مؤسسات دولة إسرائيل، ويوجه لها تهمة العنصرية، ونسف الديمقراطية، والتمييز بين المواطنين، والدعوة للتهجير العرقي. ولكن أجهزة الأمن تقلب الآية، فيصبح عزمي بشارة متهما وتصبح هي بريئة، وكل ذلك بالاستناد إلى أكاذيب الاتهامات الشبيهة بأكاذيب الإعلام في مرات سابقة.
ولكن ما يحزن هنا، أن بعض الإعلام العربي، يزاود على عزمي بشارة، فيلمح تارة إلى اتهامات إسرائيل له، وبأن قضيته جنائية وليست سياسية، أو يغمز من قناته قائلا إنه يسعى وراء وظيفة في هذا البلد أو ذاك. ما يحزن أن البعض يتجاهل أن المعركة ضد عزمي بشارة ليست سوى البداية، وبعدها سيتم تهديد زملائه بالصمت أو بمواجهة المصير نفسه، وبعدها سيتم تهديد الأحزاب العربية لتنصاع إلى الخطط الصهيونية فتقبلها أو يتم حلها واعتبارها خارجة على القانون، ثم يمتد الإرهاب إلى الجالية العربية لتصمت وتقبل وضعية المواطنين من الدرجة الثانية، في بلدهم وفي وطنهم الأم.
...... وعزمي بشارة قائد وطني يجب أن نفخر به، ونحن نثق بأن خياره سيكون خيارا وطنيا في خدمة قضيته وشعبه.
عُرِف عزمي بشارة بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية