تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
2 أغسطس, 2015

دقيقة مزاودة على أرواح الشهداء

عبّاد يحيى

تصاعد لغة المزايدة فلسطينياً مؤشر رئيس على أن لا أحد منشغل في مواجهة حقيقية مع الاحتلال، وتضاعد المزايدات والصراخ الداخلي يتبع دوما كل جريمة إسرائيلية، فالكل يريد التنصل من أعبائه، عبء السماح بحدوث الجريمة، وعبء الرد عليها، وعبء ضمان ألا تتكرر. بل يمكن للمراقب توقع مجمل المواقف الفلسطينية، حتى مواقف الناس العاديين، بعد أي جريمة إسرائيلية.

بعد التفجع والأسى والبكائيات والاعترافات العاطفية بالتقصير والخجل والهزيمة، تظهر قواسم مشتركة لخطابات ما بعد الجريمة، أهمها: إثبات براءة الشخص أو الحزب أو الجهة أو المنطقة الجغرافية من أي شبهة تقصير أو مسؤولية، ولو أخلاقية، في حدوث الجريمة، ثم إثبات تورط الآخرين ومسؤوليتهم والإبداع في اختراع روابط وأشكال لتمرير هذه الاتهامات. وبالتالي، تحميلهم هم مسؤولية ما مضى، والتنصل من مسؤولية الرد والفعل على الجريمة، ثم تذكير الجميع بالفارق النوعي بينـ"نا" وبينـ"هم" في الشأن الوطني والنضالي. وبالتالي، فتكرار الجريمة مرتبط بالمواقف والأدوار الثابتة للآخرين، وهم يتحملون مسؤوليتها إن وقعت.

وبعيدا عن مقدار الصوابية الجزئية لأجزاء من هذه الخطابات، فإنها، وبشكلها الحالي وبتفاعلاتها الإعلامية، باتت أدنى حتى من الحق الذي يراد به باطل، ولم يعد فيها من الحق شيء ما دامت بنت سياق سجالي مزاود، يكرس تنصلا غير مسبوق من المسؤوليات الوطنية والأخلاقية، ودفعها باتجاه الآخرين.

المعضلة الحقيقية اليوم في هذا السياق هي قناعة كثيرين أنهم قادرون على مراكمة رصيد نضالي، قائم على قدراتهم البلاغية وهجماتهم الكلامية على الآخرين، لإثبات تقاعسهم، أو تخاذلهم، أو انعدام إسهامهم في الشأن الوطني. وتفترض عملية المراكمة النضالية هذه أن وجود آخرين أدنى في سلم الوطنية والتضحيات، يعني أن صاحب هذه الحملات متقدم على سلم الوطنية، وكل ما يلزمه ليستريح ضميره، ويؤدي مهمته الوطنية الجسيمة، هي إثبات أنه أفضل من الآخرين، وأكثر وطنية منهم. واللافت أيضا أن جمهور هذه المزاودات ومصدّقيها يتزايدون، لأنهم، ببساطة، قادرون على استخدام هذه الحيلة، لمعالجة توترهم النفسي حيال حقيقة تخاذلهم وإدراكهم كم هم متشابهون مع "الآخرين" الذين يهاجمونهم.

تعلمنا التجربة، نحن الفلسطينيين، أن أصحاب الصوت الأعلى، من يحاولون رفع سقوف النضال كلاميا، محل ريبة، ناهيك عن كونهم الأقل فعلاً وتأثيراً، وإن الناس يتجنبون مواجهتهم بحقيقتهم، خشية من صوتهم المرتفع. تصبح هذه الخبرة مهمة اليوم، في وقت لم يبق لدى كثيرين ما يفعلونه سوى خوض حروب الكلام، وتحديدا الموجه إلى أبناء شعبهم وجلدتهم، أكثر مما يوجه لإسرائيل نفسها. وإسرائيل تحب هؤلاء، وليس غريبا أنها لا تتعرض لهم، ولو بأي إجراء كان، وإسرائيل تعرف أعداءها جيداً، ولا تتأخر في مهاجمتهم.

ليس الحديث هنا جزءا من السجال القديم المستجد حول الكلام والفعل، حول التنظير والممارسة، فهذا نقاش متقدم على الحالة التي تتكاثر في المرحلة الأخيرة، وهي أدنى من أن توضع في مستوى نقاش فكري سياسي عن فعالية التنظير والسجال، في واقع تسحقه أفعال إسرائيل، إنما نحن اليوم أمام حالة من حرب كلامية لا تنتهي، يحاول فيها فلسطينيون الانتصار على فلسطينيين آخرين، بقوة الصوت والشعبوية والديماغوجية، من دون أي تبرير لقيمة هذه الانتصارات المسرحية، وأثرها في صراع يدّعي الجميع أنه محدد مواقفهم، ونهاية غايتهم وقصدهم.

قد نكون، نحن الفلسطينيين، أصحاب أكبر رصيد عالمي من دقائق الصمت على أرواح الشهداء في كل محفل نقيمه ونبدأه بذاك الصمت الاعتذاري الرائج، ويبدو أننا فقدنا الشعور بقيمة دقائق الصمت تلك، ونحن بأشد الحاجة له، خصوصاً ونحن نصدع أسماء الشهداء بحروبنا الكلامية التنصلية الانهزامية، حتى قبل أن نواريهم التراب.

صحيفة العربي الجديد